أكد رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام أن بناء الدولة هو من أوّل مهمّات حكومته، مشيرا إلى أن “استعادة سيادة بلدنا أمر أساسي لبناء الثقة مع المجتمع الدولي وتشجيع المستثمرين للعودة إلى لبنان والقضاء المستقّل هو حجر الزاوية ليكون بلدنا مركزًا للتحكيم الدولي وإعادة رسم دوره في حلّ النزاعات”.
وكشف سلام، خلال مؤتمر “إعادة بناء لبنان: إطار الاستثمار وفرص الأعمال”، عن أنه تمّ نزع الأسلحة من أكثر من 500 مخزن في الجنوب، مضيفا: “عزّزنا الأمن في مطار بيروت ونعمل مع القنوات الديبلوماسية لتوقف إسرائيل هجماتها على لبنان وتنسحب من النقاط الـ5، كما نعمل على إعادة السيطرة على كل نقاط الدخول والخروج من لبنان خصوصًا مطار بيروت وسنعمل على فتح مطار القليعات”.
ولفت سلام إلى أنه تم إنجاز تقدم حقيقي لإعادة حقوق المودعين، وقال: “انهيار القطاع المالي في لبنان هو نتيجة الحوكمة السيئة والإفلات من العقاب والبلد يواجه تحديات كبرى، ولقد أدخلنا معايير شفافة في التعيينات”.
وفيما يلي النص الكامل لكلمة رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام خلال مؤتمر “إعادة بناء لبنان: إطار الاستثمار وفرص الأعمال”:
يسعدني أن أخاطبكم اليوم في هذا المؤتمر الدولي المرموق، الذي ينظّمه المعهد المعتمد للمحكّمين. فهذا المنتدى الذي يجمع نخبة من الشخصيات البارزة في الحكومة والقطاع الخاص والأوساط الأكاديمية والقانونية، يُجسّد أفضل ما يمكن أن ينتج عن الشراكة بين القطاعين العام والخاص، في سبيل خدمة الأولويات القصوى التي يواجهها لبنان اليوم: إعادة بناء المؤسسات والبُنى التحتية، وإنعاش الاقتصاد، وإطلاق كامل طاقات الشعب اللبناني. كما يُمثّل هذا المؤتمر شهادةً على نهوض بيروت المستمر، وتجدد لبنان كمركز نابض يلتقي فيه التنوع، وتتشكّل فيه الأفكار، ويُرسم فيه المستقبل.
اقرأ ايضا
نجتمع اليوم في لحظة مفصلية من تاريخ بلدنا. يواجه لبنان تحدياتٍ عميقة — اقتصادية وسياسية واجتماعية. فقد تسبّبت سنواتٌ من الفساد، والمحسوبية، والطائفية، وسوء الإدارة الفادح، في إنهاك المجتمع اللبناني.
وقد أدّى الانهيار شبه الكامل في القطاعين المالي والمصرفي إلى نتائج كارثية، نتيجة ضعف الحوكمة المالية، وسوء السياسات النقدية، والأهمّ من ذلك: ثقافة الإفلات من العقاب. فمنذ عام 2019، فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 98% من قيمتها، وانكمش الناتج المحلي الإجمالي بنحو 60%، وتم تجميد أكثر من 80 مليار دولار من ودائع اللبنانيين في النظام المصرفي، مع فرض قيود شديدة على سحب وتحويل الأموال. وقد أدّى ارتفاع معدلات البطالة، واتساع رقعة الفقر، وحالة اليأس المنتشرة إلى استنزاف رأس المال البشري، مما دفع كثيرين — خصوصًا من الكفاءات الشابة — إلى الهجرة بحثًا عن الاستقرار والفرص.
وفي آب 2020، بلغ خلل المؤسسات في لبنان ذروته في واحدة من أحلك لحظاته: انفجار مرفأ بيروت، الذي أودى بحياة أكثر من مئتي شخص، وأصاب الآلاف، ودمّر أجزاء واسعة من العاصمة، ليُصبح رمزًا صارخًا للحاجة الملحّة إلى المحاسبة والعدالة والإصلاح والحُكم الرشيد.
وما زاد من تفاقم الأزمة الإنسانية والاقتصادية في لبنان هو العدوان الإسرائيلي الأخير، الذي شرّد آلاف العائلات، ودمّر سبل العيش، وألحق أضرارًا جسيمة بالبُنى التحتية الحيوية. وتُقدّر التقارير الحديثة، بما فيها تقرير البنك الدولي، تكاليف إعادة الإعمار بأكثر من 14 مليار دولار، ما يُشكّل عبئًا إضافيًا على دولةٍ هشّة أصلًا.
ورغم كل الأزمات، فإن ما يلفت الأنظار دومًا هو صمود الشعب اللبناني. فقد أظهر اللبنانيون شجاعةً وإصرارًا في مواجهة المحن، وأبدى القطاع الخاص مرونةً عالية في التكيّف مع الانهيار الاقتصادي. إنّ هذا الصمود هو شهادةٌ حيّة على الروح اللبنانية وعقلية المبادرة والمثابرة.
لكن لا يمكن للدولة أن تستمر في الاعتماد على هذا النوع من الصمود فقط. فإبداع الأفراد وعزمهم لا يُمكن أن يحلّ محلّ مسؤوليات الدولة الفاعلة. ولا يمكن لأي مجتمع أن يواصل الاتكال على صلابة شعبه لتعويض فشل مؤسساته وشلل نظامه السياسي. لقد حان الوقت لكي ينتقل لبنان من البقاء الفردي إلى التقدم الجماعي — عبر بناء دولةٍ صامدة، ترتكز إلى سيادة القانون، ومؤسسات حديثة، وسياسات اقتصادية مستدامة، واحترام كامل للسيادة الوطنية.
إنّ بناء هذه الدولة الصامدة — لبنان 3.0 — هو المهمة المركزية لحكومتي. فبينما تشكّل لبنان 1.0 انطلاقًا من طموحات ما بعد الاستقلال، ولبنان 2.0 من خلال جهود إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية، يجب أن يتمحور لبنان 3.0 حول بناء إطارٍ مستقرّ ودائم يُعيد الثقة للمواطنين والمستثمرين، ويُمكّن كلّ لبناني من العيش بكرامة وأمان، ويستمدّ قوته من التنوع، ويسعى نحو الفرص الاقتصادية.
ويسعدني أن أقول إنّ حكومتنا الجديدة تعمل — رغم كل التحديات — على ترجمة هذا الطموح إلى واقع ملموس. لقد أحرزنا تقدّمًا حقيقيًا في ترسيخ أسس هذه المرحلة الجديدة، والمرحلة المقبلة ستكون أكثر حيوية.
مرتكزات رؤية حكومتي للبنان الجديد تقوم على ثمانية محاور أساسية:
استعادة السيادة وضمان الأمن والاستقرار:
لا سلاح إلا بيد الدولة، ولا قرار بالحرب أو السلم إلا للدولة، والالتزام الكامل بالقرارات الدولية، وفي مقدمتها القرار 1701. قمنا بتفكيك أكثر من 500 موقع عسكري ومخزن أسلحة جنوب الليطاني. عززنا الإجراءات في مطار بيروت ومحيطه، واعتقلنا المتورطين في الاعتداءات على قوات اليونيفيل. وبدأنا التعاون مع السلطات السورية لضبط الحدود ومكافحة التهريب، ونسعى لإعادة النازحين بكرامة. كما نواصل تحرّكنا الدبلوماسي لإجبار إسرائيل على وقف اعتداءاتها، والانسحاب الكامل من الأراضي اللبنانية المحتلة. السيادة الكاملة هي المدخل للاستقرار، ولعودة الثقة الدولية والاستثمارات.
ترسيخ استقلالية القضاء:
أقرّت حكومتنا مشروع قانون استقلالية القضاء في مجلس الوزراء. هذه خطوة أساسية لإعادة الثقة، وتحقيق العدالة، ومحاربة الفساد. القضاء المستقل هو العمود الفقري لأي نظام تحكيم دولي، وهو ما يعزز دور بيروت كمركز موثوق لتسوية النزاعات.
استعادة الثقة بالنظام المصرفي والمالي:
أقرّينا قانون رفع السرية المصرفية، ومرّرنا قانون إعادة هيكلة المصارف في مجلس الوزراء، ونعمل على قانون عادل لتوزيع الخسائر. هذه الإصلاحات ضرورية لحماية حقوق المودعين، ومحاربة الاقتصاد النقدي، وفتح الطريق أمام اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
إحياء القطاعات الحيوية وتحسين الخدمات العامة والبنى التحتية:
أطلقنا آليات تعيين شفافة، ونعمل على إنشاء هيئات ناظمة مستقلة في قطاعات الكهرباء والنفط والاتصالات. لدينا خطة لتحديث مطار بيروت، وإطلاق مطار ثانٍ في القليعات خلال عام. ونعمل على تطوير مرفأ طرابلس ليكون بوابة لإعادة إعمار سوريا. كما بدأنا خططًا لتحسين النقل العام، وتوسيع شبكات الطرق، وتعزيز خدمات الكهرباء والاتصالات.
تحديث الإدارة العامة من خلال التحوّل الرقمي:
نعمل على إطلاق الهوية الرقمية الوطنية، وتطبيق حكومي موحّد، ورقمنة السجلات، ومحاكم إلكترونية، وتجريب أدوات الذكاء الاصطناعي. هذه ليست رفاهية، بل أدوات لتعزيز الشفافية والثقة. وسنعلن قريبًا عن إنشاء وزارة خاصة بتقنية المعلومات والذكاء الاصطناعي.
استعادة الأملاك العامة والخير العام:
ألغينا مراسيم غير قانونية منحت مساحات شاسعة من الشاطئ اللبناني، وسحبنا تراخيص المقالع التي صدرت قبل نهاية الحكومة السابقة. نُعيد إحياء التراث الثقافي: من ترميم مواقع تاريخية، إلى إعادة افتتاح مكتبة بيروت العامة، وإطلاق مشاريع ثقافية، وافتتاح ملعب كميل شمعون. كما نُعدّ استراتيجية وطنية موحّدة للسياحة تعزّز السلامة والأسعار التنافسية، لجذب السياح والاغتراب.
تحقيق العدالة الاجتماعية وإعادة الإعمار:
زادت تمويلات برنامج “أمان” لتصل إلى أكثر من 800,000 مستفيد. كما حصلنا على قرض بقيمة 250 مليون دولار من البنك الدولي للتعافي، ونعمل مع الأمم المتحدة على خطة متعددة القطاعات بقيمة 350 مليون دولار لدعم الجنوب في التعليم والصحة والإسكان والغذاء. وسنُطلق مؤتمرين دوليين قريبًا: أحدهما لإعادة الإعمار، والآخر لتفعيل الاستثمارات.
تعزيز المواطنة والحريات العامة وتجاوز الطائفية:
لا بد من تحويل المرونة اللبنانية إلى نظام حكم مرن. لا يمكن أن نبقى أسرى نظام طائفي. نلتزم بإقامة دولة مدنية حديثة، تُكرّس الحريات، وتطبّق اتفاق الطائف بالكامل. ولهذا، ألغيت مؤخرًا مذكرات التوقيف التي تصدر دون إذن قضائي. وسنعمل على اللامركزية الإدارية، إنشاء مجلس شيوخ، وتشكيل لجنة وطنية لدراسة إلغاء الطائفية السياسية. الإصلاح السياسي ليس مسألة شكلية — بل هو شرط لبناء نظام مستقرّ وقادر.
في الختام، ترحّب حكومتي بمساهماتكم وأفكاركم — في هذا المؤتمر وما بعده — في سبيل بناء دولة صامدة.
شاركونا — ليس فقط في تطوير التحكيم في لبنان، بل في تجديد لبنان نفسه. معًا، نستطيع أن نبني مستقبلًا قائمًا على العدالة، مدفوعًا بالشراكة، وغنيًا بالفرص.
